كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل رجلًا من بني سليم عن ذهاب بصره فقال يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عمّ فكنا نظلمه فكان يذكرنا الله والرحم فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه ويقول:
لا همّ أدعوك دعاء جاهدًا ** اقتل بني ضبعاء إلا واحدًا

ثم اضرب الرجل ودعه قاعدًا ** أعمى إذا قيد يعيي القائدًا

قال فمات أخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي فليس يلائمني قائد فقال عمر رضى الله تعالى عنه جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ليرجع الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما جاء الدين صار التوعد للساعة ويستجيب الله تعالى لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وإنما أكثرت من هذه الحكايات ليكون الداخل للحرم على حذر فإنّ الله تعالى حماه ومكَّن أهله في الحرم الذي أمنَّه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناجدون وهم آمنون في حرمهم لا يخافون وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذي زرع والثمرات والأرزاق تجبى إليهم كما قال تعالى: {يجبى} أي: يجمع ويحمل {إليه} أي: خاصة دون غيره من جزيرة العرب {ثمرات كل شيء} من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والنبق، والباردة كالعنب والتفاح والرمّان والخوخ، فإذا خولهم الله تعالى ما خوّلهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرّضهم للخوف والتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز.
تنبيه:
معنى الكلية هنا الكثرة كقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء}.
ولكن في تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ما لم يخطر لأحد منهم في بال، وقرأ نافع بالتاء الفوقية، والباقون بالياء التحتية، وأمال حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، ثم إنه تعالى بين أنّ الرزق من عنده بقوله تعالى: {رزقًا من لدنا} أي: فلا صنع لأحد فيه بل هو محض تفضل.
تنبيه:
انتصاب رزقًا على المصدر من معنى يجبى أو الحال من ثمرات لتخصيصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المخصصة وإن جعلته اسمًا للمرزوق انتصب على الحال من ثمرات {ولكن أكثرهم} أي: أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له {لا يعلمون} أي: ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بل هم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا، وقيل: إنه متعلق بقوله تعالى: {من لدنا} أي: قليل منهم يتدبرون فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره، ثم بين تعالى أنّ الأمر بالعكس فإنهم أحقِّاء بأن يخافوا من بأس الله تعالى على ما هم عليه بقوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية} أي: من أهل قرية وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله تعالى: {بطرت معيشتها} أي: وقع منها البطر في زمن عيشها الرخيّ الواسع فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم، ومعنى بطرهم لها قال عطاء: أنهم أكلوا رزق الله وعبدوا غيره، وقيل: البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه.
تنبيه:
انتصاب معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كما في قوله تعالى: {واختار موسى قومه}.
أو بتقدير حذف ظرف الزمان وأصله بطرت أيام معيشتها، وإما بتضمين بطرت معنى كفرت أو خسرت، أو على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريب من سفه نفسه {فتلك مساكنهم} خاوية {لم تسكن من بعدهم} بعد أن طال ما تعالوا فيها ونمَّقوها وزخرفوها وزفوا فيها الأبكار وفرحوا بالأعمال الكبار {إلا} سكونًا {قليلًا} قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون ومارّوا الطريق يومًا أو ساعة من ليل أو نهار ثم تصير يبابًا موحشة كالقفار بعد أن كانت متمنعة الفناء ببيض الصفاح وسمر القنا، قال الزمخشري: ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي في أثره ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلًا {وكنا} أي: أزلًا وأبدًا {نحن} لا غيرنا {الوارثين} منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرّف تصرّفهم في ديارهم وسائر متصرّفاتهم قال القائل:
تتخلف الآثار عن أصحابها ** حينًا ويدركها الفناء فتتبع

{وما كان ربك} أي: المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس {مهلك القرى} أي: هذا الجنس كله بجرم وإن عظم {حتى يبعث في أمّها} أي: أعظمها وأشرفها {رسولًا} لأنّ غيرها تبع لها ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه السلام من الناصرة وبعث إلى بيت المقدس {يتلوا عليهم} أي: أهل القرى كلهم {آياتنا} الدالة على ما ينبغي لنا من الحكمة وبما لها من الإعجاز على نفوذ الكلمة وباهر العظمة إلزامًا للحجة وقطعًا للمعذرة لئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا، ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء من أم القرى كلها وهي مكة البلد الحرام {وما كنا مهلكي القرى} أي: كلها بعد الإرسال {إلا وأهلها ظالمون} أي: غريقون في الظلم بالعصيان بترك ثمرات الإيمان وتكذيب الرسل.
{وما أوتيتم من شيء} أي: من أسباب الدنيا {فمتاع} أي: فهو متاع {الحياة الدنيا} تتمتعون بها أيام حياتكم وليس يعود نفعه إلى غيرها فهو آيل إلى فساد وإن طال زمن التمتع به {وزينتها} أي: فهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها فضلًا عن زينتها إلى فناء فليست هي ولا شيء بأزلي ولا أبدي {وما عند الله} أي: الملك الأعلى وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت {خير} على تقدير مشاركة ما في الدنيا له فالخيرية في ظنكم لأنّ الذي عنده أطيب وأكثر وأشهى وأزهى {و} هو مع ذلك كله {أبقى} لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزليًا فهو أبدي وهذا جواب عن شبههم فإنهم قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أنّ ذلك خطأ عظيم لأنّ ما عند الله خير وأبقى من وجهين: الأوّل: أنّ المنافع هناك أعظم، والثاني: أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل المضار فيها أكثر، وأما أنها أبقى فلإنها دائمة غير منقطعة ومن قابل المتناهي بغير المتناهي كان عدمًا فظهر بهذا أنّ منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة فلا جرم نبه على ذلك بقوله تعالى: {أفلا يعقلون} أنّ الباقي خير من الفاني فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير فمن لم يرجِّح منافع الآخرة على منافع الدنيا فإنه يكون خارجًا عن حدّ العقل، قال ابن عادل ورحم الله الشافعيّ حيث قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأنّ أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة، فكأنه رحمه الله تعالى إنما أخذه من هذه الآية انتهى، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة لاشتماله على الالتفات للإعراض به عن خطابهم، والباقون بالتاء على الخطاب جريًا على ما تقدّم.
{أفمن وعدناه} على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق {وعدًا حسنًا} لا شيء أحسن منه في موافقته للأمنية وبقائه وهو الجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود ولذلك سمى الله تعالى الجنة بالحسنى {فهو لاقيه} أي: مدركه لامتناع الخلف في وعده ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية {كمن متعناه متاع الحياة الدنيا} أي: الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب للتحسر على الانقطاع، وعن ابن عباس أن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن والمنافق والكافر فالمؤمن يتزوّد والمنافق يتزين والكافر يتمتع {ثم هو} مع ذلك كله {يوم القيامة} الذي هو يوم التغابن من خسر فيه لم يربح أصلًا {من المحضرين} أي: المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منه، قال قتادة يحضره المؤمن والكافر، قال مجاهد: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، وقال محمد بن كعب نزلت في حمزة وعلي وفي أبي جهل، وقال السدّي: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة.
تنبيه:
ثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع في الزمان أو الرتبة، وقرأ ثم هو قالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم.
{ويوم} أي: واذكر يوم {يناديهم} أي: ينادي الله هؤلاء الذين يضلون الناس ويصدّون عن سبيل الله {فيقول} أي: الله تعالى: {أين شركائي} من الأوثان وغيرهم ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله تعالى: {الذين كنتم} أي: كونًا غريقين فيه {تزعمون} أنها تشفع ليدفعوا عنكم وعن أنفسهم فيخلصكم من هذا الذي نزل بكم، تنبيه: تزعمون مفعولاه محذوفان أي: تزعمونهم شركائي {قال الذي حق} أي: ثبت ووجب {عليهم القول} أي: بدخول النار وهم رءوس الضلالة وهو قوله تعالى: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود) وغيره من آيات الوعيد وقولهم {ربنا هؤلاء} إشارة للإتباع {الذين أغوينا} أي: أوقعنا الأغواء وهو الإضلال بهم صفته والعائد حذف وقولهم {أغويناهم} أي: فغووا باختيارهم {كما غوينا} أي: نحن فهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصول محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غيًا مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا لا أنّ فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء، أو دعونا إلى الغي وسوّلوه لنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأنّ أغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلًا لا قسرًا وإلجاء فلا فرق إذًا بين غينا وغيهم وإن كان تسويلنا لهم داعيًا إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وبما بعث إليهم من الرسل وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر وناهيك بذلك صارفًا عن الكفر وداعيًا إلى الإيمان، وهذا معنى ما حكاه الله تعالى عن الشيطان: {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} (إبراهيم).
تنبيه:
اعترض أبو علي على الزمخشريّ في هذا الإعراب بأن الخبر ليس فيه زيادة فائدة على ما في صفته، فإن قلت قد وصل الخبر بقوله كما غوينا وفيه زيادة قلت الزيادة بالظرف لا تصيِّره أصلًا في الجملة لأنّ الظروف فضلات، ثم إنه أعرب هو هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا خبره وأغويناهم مستأنف، وأجاب أبو البقاء وغيره بأن الظروف قد تلزم كقولك زيد عمرو قائم في داره ثم أشاروا بقولهم {تبرأنا إليك} أي: من أمورهم إلى أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم فهو تقرير للجملة الأولى ولهذا خلت عن العاطف وعلى تقدير إغوائنا لهم {ما كانوا إيانا} أي: خاصة {يعبدون} بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء إليه وحث عليه فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على من كان سببًا في ذلك، وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا أي: تبرأنا من عبادتهم إيانا، ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عدّ عدمًا لأنه لا طائل تحته أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جوابًا كما قيل رب قول جوابه السكوت، بقوله تعالى: {وقيل} أي: ثانيًا للأتباع تهكمًا بهم وإظهارًا لعجزهم الملزوم لتحيرهم وعظم تأسفهم وذكر ذلك بصيغة المجهول للأستهانة بهم وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل آمر كائنًا من كان {ادعوا} أي: كلكم {شركاءكم} أي: الذين ادعيتم جهلًا شركتهم ليدفعوا عنكم العذاب {فدعوهم} تعللًا بما لا يغني وتمسكًا بما يتحقق أنه لا يجدي لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة {فلم يستجيبوا لهم} أي: لم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة، قال ابن عادل: والأقرب أنّ هذا على سبيل التقريع لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم {ورأوا} أي: هم {العذاب} عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم فكان الحال حينئذ مقتضيًا لأن يقال من كل من يهواهم {لو أنهم كانوا يهتدون} أي: تحصل منهم هداية ساعة من الدهر تأسفًا على أمرهم وتمنيًا لخلاصهم ولو أن ذلك كان في طاقتهم وجواب لو محذوف أي: لنجوا من العذاب ولما رأوه أصلًا، قال الضحاك ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة.